تعبير عن النور الذي اتبعوه
ما كان حديثاً يُفترى ولا فنوناً يتردد ذلك الحديث الذي روى به التاريخ أنباء أعظم ثلة ظهرت في دنيا العقيدة والإيمان ذلك أن التاريخ الإنساني بطوله وعرضه لم يشهد من التوثيق والصدق الحقيقة ما شهدته تلك الحقبة من تاريخ الإسلام ورجاله السابقين حيث توفر على دراستها وتتبع أنبائها جهد بشري خارق حيث وقد نهضت به أجيال متساوقة من علماء أفذاذ لم يدعوا من ذلك العصر الأول للإسلام ،همسة ولا خلجة إلا وضعوها تحت مجاهر الفحص وأضواء الدراسة والنقد فالعظمة الباهرة لأولئك الرجال الشاهقين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست أساطير وإن بدت من فرط إعجازها كالأساطير إنها حقائق تشكل كل ما كان لأصحاب الرسول من شخصية وحياة وإنها لتسمو وتتألق لا بقدر ما يريد لها الكتاب والواصفون بل بقدر ما أراد لها أصحابها وذووها، وبقدر ما بذلوا في سبيل التفوق والكمال من جهد خارق مبرور ألا إن التاريخ لم يشهد رجالاً عقدوا عزمهم ونواياهم على غاية تناهت في العدالة والسمو ثم تذروا لها حياتهم على نسق تناهى في الجسارة والبذل والتضحية.
كما شهد في أولئك الرجال حول الرسول لقد جاؤوا الحياة في أوانهم المرتقب ويومهم الموعود فحين كانت الحياة تهيب يمن يجدد لقيمها الروحية شبابها وصوابها، جاء هؤلاء مع رسولهم الكريم مبشرين وناسكين وحين كانت تهيب بمن يضع عن البشرية الرازحة أغلالها، ويحرر وجودها ومصيرها جاء هؤلاء وراء رسولهم العظيم ثواراً ومحررين وحين كانت تهيب يمن يستشرف للحضارة الإنسانية مطالع جديدة ورشيدة جاء هؤلاء رواداً ومستشرفين كيف أنجز أولئك الأبرار كل هذا الذي أنجزوه في بضع سنين كيف شادوا بقرآن الله وكلماته عالما جديدا يهتز نضرة ويتألق عظمة ويتفوق اقتدارا.
وقبل هذا كله وفوق هذا كله كيف استطاعوا في مثل سرعة الضوء أن يضيئوا الضمير الإنساني بحقيقة التوحيد ويكنسوا منه إلى الأبد وثنية القرون تلك هي معجزتهم الحقة فإن معجزتهما الحقة تتمثل في تلك القدرة النفسية الهائلة التي صاغوا بها ،فضائلهم واعتصموا بإيمانهم على نحو يجل عن النظير على أن كل معجزاتهم التي حققوها لم تكن سوى انعکاس متواضع للمعجزة الكبرى التي أهلت على الدنيا يوم أذن الله لقرآنه الكريم أن يتنزل ولرسوله الأمين أن يبلغ، ولموكب الإسلام أن يبدأ على طريق النور خطاه أجل إن معجزاتهم لم تكن شيئا سوى النور الذي اتبعوه .
فاي معلم كان .. وأي إنسان .. هذا المترعُ عَظَمةٌ ، وأمانة وسموا ..؟ ألا إن الذين بهرتهم عظمته لمعذورون .. وإن الذين افتدوه بأرواحهم لهم الرابحون ..! ابن عبد الله محمد .. رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس في قيظ الحياة أي سر توفر له فجعل منه إنساناً يشرف بني الإنسان ؟ وبأية يد طولى بسطها شطر السماء فإذا كل أبواب رحمتها ونعمتها وهداها مفتوحة على الرحاب.
لقد آتاه الله من أنْعمه بالقدر الذي يجعله أهلاً لحمل رايته، والتحدث باسمه بل ويجعله أهلاً لان يكون خاتم رسله ومن ثم كان فضل الله عليه عظيماً ومهما تَتَبارَ القرائح والأفهام والأقلام متحدثة عنه، عازفة أناشيد عظمته، فستظل جميعاً كان لم تبرح مكانها، ولم تحرك بالقول لسانها وحسبنا إذن أن نبصر في ضوء شعاع من ضيائه الغامر بعض سمات عظمته النادرة التي نادت إليه ولاء المؤمنين وجعلتهم يرون فيه الهدف والطريق والمعلم والصديق ما الذي جعل بعض سادة قومه يسارعون إلى كلماته ودينه المسارعة المؤمنة عن كل ما كان يحيطهم به قومهم من مجد وجاه مستقبلين في مُتَخَلينَ بهذه الوقت نفسه.
حياة تَمورُ مَوراً شديداً بالأعباء وبالصعاب وبالصراع ما الذي جعل ضعفاء قومه يلوذون بحماه ويُهْرَعُون إلى رايته ودعوته وهم يبصرونه أعزل من المال ومن السلاح ينزل به الأذى ويطارده الشر في تحد رهيب دون أن يملك عليه الصلاة والسلام له دفعاً.
ما الذي جعل المؤمنين به يزيدون ولا ينقصون، وهو الذي يهتف فيهم صباح مساء : و لا أملك لكم نفعاً، ولا ضراً ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم ؟ ما الذي جعلهم يصدقون أن الدنيا ستفتح عليهم أقطارها، وأن أقدامهم ستخوض خوضاً في ذهب العالم وتيجانه وأن هذا القرآن الذي يتلونه في استخفاء متردده الأفاق عالي الصدح قوي الرنين، لا في جيلهم فحسب، ولا في جزيرتهم فحسب بل عبر جميع الزمان وجميع المكان.
ما الذي ملا قلوبهم يقيناً وعزماً إنه ابن عبد الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن لكل هذا سواء ؟ لقد رأوا رأي العين كل فضائله ومزاياه، رأوا ظهره، وصفته، وأمانته و استقامته وشجاعته رأوا سموه وحنانه رأوا كل هذا وأضعاف هذا، لا من وراء قناع بل مواجهة والمرساً وبصراً وبصيرة.
هؤلاء رأوا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاصروه منذ أهل على الوجود وليداً، لم تخف عليهم من حياته خافية؛ فقد كانت حياته واضحة مقروءة من المهد إلى الممات هذا فيما نحسب كان منطلق المؤمنين الأوائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين منهم، والذين آووا ونصروا ولقد كان منطلقاً حاسماً وسريعاً ليس للتردد ولا للتفكر معه سبيل فإنسان له كل هذه الحياة المضيئة الطاهرة لا يمكن أن يكذب على الله.
بهذه البصيرة النافذة رأى أولئك المؤمنون نور الله فاتبعوه ولسوف يحمدون هذه عندما يرون فيما بعد رسول الله ينصره ربه وتدين له الجزيرة كلها، بصيرتهم. ويفتح عليهم من أبواب الرزق والغنائم ما لم يكونوا يحتسبون فإذا هو لا يزداد إلا زهداً وتقشفاً وورعاً حتى يلقى ربه حين يلقاه وهو نائم فوق حصير تترك أعواده في الجسد الطباعاتها الضاغطة وحين يرونه وهو الرسول الذي تملأ راياته الأفق عزيزة ظافرة يصعد المنبر ويستقبل الناس باكياً وهو يقول " من كنت جلدت له ظهراً، فهذا ظهري فليقتد منه ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه ".
وحين يرونه وعمه العباس يسأله أن يوليه عملاً من تلك الأعمال التي ظفر بها كثير من المسلمين العاديين. فيصرفه في رفق قائلا له : «إنا - والله يا عم - لا نولي هذا الأمر أحداً يسأله أو أحداً يحرص عليه » او حين يرونه لا يشارك الناس ما ينزل بهم من خصاصة فحسب بل يضع لنفسه ولاهل بيته مبدأ لا يحيدون عنه هو : أن يكونوا أول من يجوع إذا جاع الناس وآخر من يشبع إذا شبع الناس.
سيزداد المؤمنون الأوائل حمداً لبصيرتهم التي أحسنت رؤية الأمور في إقبالها بعد أن يزدادوا حمداً وشكراً لله الذي هداهم للإيمان وسيرون أن الحياة التي كانت خير برهان على صدق صاحبها حين قال لهم : ( إني رسول الله إليكم)، كانت عظيمة حقا وكانت بعظمتها وطهرها خير برهان على صدق المعلم العظيم والرسول الكريم، فإن مستواها من العظمة والتفوق لم يهبط لحظة، ولم يتعثر بل ظل كما هو من المهد إلى الممات وعبر هذه الحياة وبعد بلوغها قمتها تبين كضوء النهار أن صاحب هذه الحياة وهذه الرسالة لم يكن يسعى إلى جاه ولا مال ولا سيادة. فحين جاءته كل هذه معقودة بالويته الظافرة رفضها جميعا وعاش حياته حتى اللحظة الأخيرة الأواب المقبل لم تتخلّف نفسه عن أغراض حياته العظمى قيد شعرة.
ولم يخلف موعده مع الله في عبادة ولا في جهاد فلا يكاد النصف الأخير من الليل يبدأ حتى ينهض قائماً، فيتوضا، ويظل كما اعتاد أبداً يناجي ربه ويبكي ويصلي ويبكي تراكمت الأموال بين يديه ثلالاً، فلم يتغير، ولم يأخذ منها إلا مثلما يأخذ أقل المسلمين شأناً وأكثرهم فقراً ثم مات ودرعه مرهونة ودانت البلاد كلها لدعوته ووقف أكثر ملوك الأرض أمام رسائله التي دعاهم بها إلى الإسلام وجلين ضارعين.